"مكارثية" مطاردة الساحرات وأشباح روسيا في أمريكا!

أخبار العالم

انسخ الرابطhttps://ar.rt.com/iki4

 ما تشهده الولايات المتحدة من حملة مجنونة لمطاردة الساحرات وملاحقة أشباح روسيا بحجة التدخل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، هو أكثر من هوس واضح الأهداف والمرامي ويصب في تعميق هوة الودّ المفقود بين موسكو وواشنطن.

 فليس من هدف لهستيريا تهمة الاتصال بالروس، التي تسود الدوائر الأمريكية حاليا، وتشبه إلى حد كبير عفريت المكارثية الذي انطلق من قمقمه أواسط القرن الماضي في بلاد العم سام، إلا الإمعان بتخريب العلاقات المتراجعة أصلا بين البلدين اللذين انتهت بينهما الحرب الباردة منذ عقود.

يوم 9 فبراير/شباط 1950، وقف عضو الكونغرس الأمريكي الجمهوري جوزيف مكارثي وسط ناخبيه في ولاية ويست فيرجينيا وتحديدا في مدينة ويلينغز، في ذكرى ميلاد الرئيس الأمريكي الأسبق إبراهام لينكولن، ليعلن أن وزارة الخارجية الأمريكية أصبحت مليئة بأعضاء الحزب الشيوعي وجواسيس روسيا" تلك كانت الضربة الأولى التي ضربها مكارثي لتبدأ بعدها حملة هي الأسوأ في التاريخ الحديث من حيث مصادرة الرأي وإطلاق هستيريا الاتهامات دون أدلة واغتيال آلاف المثقفين والفنانين والنخبويين، وإشعال فتيل الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا.

حمل مكارثي في جعبته قائمة ضمت 205 أسماء من العاملين في وزارة الخارجية الأمريكية آنذاك، اتهمهم بالتعامل مع الأنظمة الشيوعية، ولكن تحقيقات المباحث الفيدرالية الامريكية شملت ما يقرب من ثلاثة آلاف موظف أمريكي في الخارجية وغيرها من المؤسسات، وطاول الظلم الأكبر والأثر الأعظم للمكارثية هوليوود ومبدعيها.

أولى ضحايا المكارثية الجديدة، كان مايكل فلين، مستشار الرئيس دونالد ترامب لشؤون الأمن القومي الذي شنّ الإعلام الأمريكي "حربا حقيقية" عليه، وصلت الى حدّ اتهامه بأنه "أداة في يد موسكو" والمطالبة بتطبيق "قانون لوغان" ضدّه على خلفية الفضيحة التي أطلقتها صحيفة "واشنطن بوست" بنشرها محادثات جرت في ديسمبر/كانون الأول الماضي بينه وبين سيرغي كيسلياك، السفير الروسي لدى الولايات المتحدة.

وقانون لوغان وهو تشريع تبناه مجلس النواب الأمريكي عام 1799 يحظر على المواطنين غير المخولين، التفاوض مع حكومات أجنبية على خلاف مع الولايات المتحدة.

وزعمت "واشنطن بوست" ، نقلا عن مسؤولين أمريكيين سابقين وحاليين (دون أن تذكر أسماءهم) أن فلين، الذي كان أنذاك مواطنا أمريكيا عاديا، حاول تقويض السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، مشيرة إلى أن فلين ألمح إلى إمكانية إعادة إدارة خلفه دونالد ترامب النظر في العقوبات الدبلوماسية المفروضة على روسيا بسبب ما وصفته واشنطن بمحاولة موسكو "التأثير" على الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

مسكين السيد فلين طالب بالاعتدال فرماه أهل البيت بسهام سامة متطرفة اصابت منه مقتلا.

 خطيئته الوحيدة تكمن في مناشدته موسكو "الاعتدال" في ردها على طرد أوباما في الأيام الآخيرة من ولايته 35 دبلوماسيا روسيا، خلال حديثه مع كيسلياك. فإذا كان المواطن فلين قبل تعيينه مستشارا للأمن القومي قد دعا روسيا بالفعل إلى الاعتدال، فإنه لم يخرق أي قوانين أمريكية ولم يلحق ضررا بأحد، بل دعا إلى الهدوء والمنطق السليم وعدم الرد على كثيرين يحاولون نزع صفة الشرعية عن الانتخابات الرئاسية والعبث بعملية انتقال السلطة للرئيس ترامب، بما في ذلك باللجوء إلى عنف الشوارع.

مناوئو روسيا في أمريكا يحاولون وضع العصا في عجلة السياسة الخارجية لإدارة ترامب، من خلال دس مواد صحفية معتمدة على مصادر مجهولة الهوية.

ما أقرب اليوم من الأمس البعيد, لكن الفرق الوحيد بينهما أن كبريات الصحف والأقنية التلفزيونية المناهضة لترامب تقتبس دور جوزيف مكارثي بإتقان فتطلق الاتهامات ذات اليمين وذات اليسار دون أدلة ولا إثباتات ولا من يحزنون.

قبل أكثر من نصف قرن، طالت اتهامات جوزيف مكارثي العديد من العاملين في حقل صناعة السينما في هوليوود وعدد من الشخصيات العامة، ربما كان أشهرهم العبقري شارلي شابلن  والسيناريست الأمريكي الفذ دالتون ترامبو وعالم الفيزياء الشهير ألبرت اينشتاين والروائي والمسرحي الأمريكي أرثر ميللر والمناضل مارتن لوثر كينغ وغيرهم وغيرهم الكثير.

مشهد مثول أحد الفنانين أو المفكرين او أحد المناضلين أو الموظفين أو أحد القيادات العمالية أمام لجنة مكارثي في الكونغرس للتحقيق في كونه شيوعيا تكرر مرارا وتكرارا، بل استطاع مكارثي وبدعم من صديقه روي كوهين أن يجعل الرأي العام الأمريكي في صفه يعادي كل من يشير إليه مكارثي، ليتحول مكارثي وروي كوهين ألى أعداء كل فكر مختلف في الولايات المتحدة الامريكية.

وعلى هذا النحو، بدأت قبل أسابيع الحملة المكارثية الجديدة في أمريكا ضد فلين، ثم كرّت السبحة لتطاول وزير العدل بعده، جيف سيشنز، ثم كارتر بيج وجيفري غوردون، المستشارين السابقين للحملة الانتخابية للرئيس ترامب، فتنبه الأخير ألى أن خصومه يحفرون الأرض تحت أقدام إدارته ويحاولون وضعه ووضع مساعديه في قفص الاتهام، فسارع للرد معربا عن ثقته "الكاملة" في وزير العدل جيف سيشنز، خلال كلمة ألقاها على متن حاملة الطائرات "جيرالد فورد" المتمركزة في ولاية فرجينيا.

وشبّه ترامب مطالب الديمقراطيين باستقالة وزير العدل سيشنز، على خلفية اتصالاته المزعومة مع مسؤولين روس، بـ "مطاردة الساحرات".وقال في بيان، "هذ هو السبيل الوحيد للديمقراطيين لحفظ ماء وجههم بعد خسارتهم في الانتخابات، التي ظنوا أنهم سيربحونها، لقد فقدوا أي اتصال مع الواقع". ودافع عن سيشنز قائلا، "إنه رجل صادق ونزيه، لم يقل شيئا خاطئا، كان بوسعه أن يرد بمزيد من الدقة، ولكن من الواضح أن ذلك لم يكن متعمدا".

وزاد الطين بلّة ما كشفته صحيفة "إنديانابوليس ستار" الأمريكية الخميس 2 مارس/آذار،حول استخدم مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي بريدا إلكترونيا خاصا لمناقشة أمور عامة بينها قضايا حساسة ومسائل تتعلق بالأمن الداخلي عندما كان حاكما لولاية إنديانا. وقالت أن بنس تواصل عبر حسابه الشخصي على موقع (إيه.أو.إل) مع كبار مستشاريه حول قضايا تراوحت بين الشؤون الأمنية إلى رد فعل الولاية على الهجمات الإرهابية حول العالم، مشيرة إلى أن هذا الحساب البريدي تعرض للاختراق الصيف الماضي.

إذا، الهدف ليس فقط روسيا وتدخلها المزعوم في الانتخابات الأمريكية، بل الحفر بضجة وصخب تحت اقدام ترامب وإدارته ضمن خطة خبيثة تهدف لإسقاطه على المدى البعيد، وجعل سيف الاتصالات مع روسيا مصلطا فوق رأسه ورأس إدارته لمنعهما من مجرد التفكير بتحسين العلاقات مع موسكو وإصلاح ما خرّبه الدهر وإدارة أوباما في هذه العلاقات التي تبقى مؤشرا ومعيارا للعلاقات الدولية ونبراسا للنزاعات الإقليمية التي تنشب تحت ظلّها.

مطاردو الساحرات والأشباح لا يريدون سماع صوت أخر غير أصواتهم، فهم يصمّون آذانهم عن كل التكذيب والنفي الصادر عن روسيا ومسؤوليها. فلا إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن روسيا لم تتدخل في عملية الانتخابات الأمريكية، على خلاف حلفاء واشنطن في أوروبا، ولا نفي الناطق الرئاسي الروسي دميتري بيسكوف مرارا وتكرارا عن عدم تدخل روسيا لا من قريب ولا من بعيد بهذه الانتخابات، لقيت آذانا صاغية أو اهتماما كافيا من المكينة الإعلامية والواقفين وراء فبركة هذه التهم والمزاعم وتوزيعها ذات اليمين وذات اليسار.

وأكثر من ذلك فإن سخرية الوضع حملت الوزير لافروف على القول " إن هؤلاء الذين تدخلوا في هذه الحملة الانتخابية، يوجهون اتهامات إلينا". مشيرا إلى أن عددا كبيرا من زعماء الدول الحليفة للولايات المتحدة – وبينهم أنغيلا ميركل وتيريزا ماي وفرنسوا هولاند وغيرهم – دعموا المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون بشكل علني.

وأكد أن مسؤولين أوروبيين لم يخجلوا من "شيطنة" صورة ترامب، مشيرا إلى أن نظيره الألماني الأسبق فرانك-فالتر شتاينماير وصف ترامب بأنه داعية كراهية، بينما قال وزير خارجية بريطانيا بوريس جونسون أن ترامب ليس سليما، أما رئيس الوزراء الفرنسي السابق مانوئيل فالس فقال إن العالم كله يرفض المرشح الجمهوري.وختم لافروف قائلا: إن هؤلاء الذين يوجهون مثل هذه الاتهامات إلينا في محاولة لقلب الوضع رأسا على عقب، عليهم أن يشعروا بالخجل.

ووصلت الأمور إلى مستويات من الإسفاف السياسي لم تبلغه من قبل، حين اضطر ترامب لنفي صحة معلومات تداولتها وسائل الإعلام عن حيازة روسيا معلومات "محرجة" عن حياته الشخصية والمالية الموضوع الذي يعد أمراً مخزياً، وذلك بعدما كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن عميلاً سابقاً في الاستخبارات البريطانية، يدعى كريستوفر ستيل، ويعمل مديراً لشركة أوربيس بيزنس إنتليجنس"، ويدير حالياً شركة أمنية خاصة مقرها لندن، هو من أعد الملف الذي تضمن مزاعم بشأن علاقات الرئيس الأمريكي وأنشطته في روسيا. واتهم ترامب وكالات الاستخبارات الأمريكية بتسهيل تسريب الملف الروسي المتعلق بالقرصنة الإلكترونية، ووصف ذلك بالأمر "المخزي".

اختصر دميتري بيسكوف، الناطق الصحفي باسم الرئيس الروسي مطاردة الساحرات وملاحقة الأشباح في أمريكا بالقول، إن إطلاق حوار عقلاني مع وشنطن يتطلب تخلي الأخيرة عن "الهستيريا" حول الهجمات الإلكترونية المزعومة. وأشار في معرض تعليقه على استمرار النقاش في الولايات المتحدة حول مضمون تقرير الاستخبارات الأمريكية بشأن التدخلات الروسية المزعومة في الحملة الانتخابية، إلى "تحول ذلك إلى هستيريا حقيقية. ونعرف أنه من غير المجدي البحث عن أي حبات للعقلانية أثناء نوبة الهستيريا، بل يجب أن ننتظر توقف هذه النوبة".

وذكّر بأن موسكو قد نفت مرارا كافة الاتهامات بهذا الصدد قطعيا، واصفا المزاعم الأمريكية بأنها سخيفة تماما، والمواد التي قدمت بهذا الشأن بأنها مفبركة.وأكد أن موسكو تعول على أن يتمكن الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب من بناء علاقة طيبة، مذكرا بأن ترامب تحدث مرارا عن استعداده للحوار مع موسكو. وأضاف: "لكن توفر الإرادة لا يعني أن هناك استعدادا للتوافق حول كافة النقاط، وهو أمر مستحيل، ولا تتوقعه موسكو. لكننا نأمل في إجراء حوار يساعدنا في البحث عن مخارج من أزمات عديدة".

ومع أن مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية، جيمس كلابر، وزع قبل مغادرته منصبه النسخة "غير السرية"، من التقرير حول الهجمات الإلكترونية على المؤسسات السياسية الأمريكية، التي حاولت واشنطن تحميل روسيا المسؤولية عنها، بزعم أن موسكو شنت "حملة تأثير" على سير الانتخابات وفقا لتوجيهات القيادة الروسية، لكن هذا التقرير لم يتضمن أي دليل يثبت صحة هذه التهم.

طالما تباهت أمريكا بأنها بلد الحرية، وعرّفت عن نفسها للعالم بأنها هي منبع الحريات في العالم الحديث،لكن، وعلى الرغم من كل تلك الدعاية عن الحرية والحريات إلا أن التاريخ الأمريكي مليء بصفحات سوداء حدثت فيها العديد من الأمور التي أبعد ما تكون عن الحرية، فهناك طبعا التفرقة العنصرية التي تعرض لها أصحاب البشرة السمراء، وإبادة الهنود الحمر، ولكن أسوء تلك الصفحات هي الهستيريا التي حدثت في الفترة من 1950 وحتى 1955، تحت اسم المكارثية والتي عادت لتطل برأسها من جديد في العام 2017.

"المكارثية" تهدف لتشديد الرقابة على كل المخالفين الذين يعملون في الدولة، لاغتيالهم معنويا عبر اتهامات بالجملة تطعن في شرفهم ووطنيتهم، ثم التنكيل بهم وإقصائهم. وكما حقق مكتب التحقيق الفيدرالي "إف. بي. آي" باتهامات "مكارثي" مع ثلاثة آلاف دبلوماسي آنذاك، يبدو أن اللجنة التي يشكلها الكونغرس ستحقق مع أكثر منهم في مزاعم تواطؤ بين حملة الرئيس دونالد ترامب الانتخابية وروسيا.

سرطان "المكارثية" امتد لجميع قطاعات المجتمع الأمريكي في زمن مكارثي، وراح ضحيتها أكثر من 200 شخص تم الزج بهم في السجون، فضلا عما يزيد على 10 آلاف تم طردهم من وظائفهم والتنكيل بهم وفق تهم ملفقة, وليس من المستبعد ان تطال المكارثية الجديدة لليس فقط كل من تحادث مع مسؤول روسي بل وكل من ألقى السلام على شخص روسي أو زار روسيا ولو بهدف السياحة في الأونة الاخيرة.

لذلك حذّرت الناطقة الرسمية باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، السفير الأمريكي في موسكو، جون تافت من "مغبة" الاتصال مع الدبلوماسيين الروس، فكتبت على صفحتها في الفيسبوك: "عند دخولي إلى مبنى الخارجية لاحظت خروج السفير الأمريكي جون تافت فقلت له أنت تعرض نفسك للخطر عند اللقاء مع الدبلوماسيين الروس، قد تعلم "سي أن أن" بذلك".

وكما استخدم "مكارثي" وقتها ممارسات التفتيش في الضمائر وتلفيق الاتهامات والفضائح لإسكات الآراء المخالفة ليس فقط للحكومة، وإنما لكل من يعترض على "المكارثية" ذاتها، فأن هستيريا مطاردة الساحرات وملاحقة أشباح روسيا تتخذ بعدا اكثر خطورة باعتمادها على تقارير مجهولة المصدر وأخبار ملفقة ومزيفة كونها باختصار طريقة ناجعة في اغتيال الخصوم السياسيين معنويًا عبراتهامات بالجملة تطعن في شرفهم ووطنيتهم ثم التنكيل بهم وإقصائهم.

تتجلى المكارثية بوصف يكاد ينطبق على كل سياق أو مشهد اجتماعي أو سياسي لا يراد فيه للوسط العادل: فكراً وممارسة أن يسود. إنها ذلك المنهج الخوارجي ذو القيمة الثنائية الحدية(إما وإما)، إما معنا وإما ضدنا. إنها أحد الأنواء الاجتماعية التي تتعلق برفض حرية المخالف في التعبير عن موقفه تجاه الآراء والأحداث والتطورات، السياسية منها والاجتماعية، وإقصائه بأشد ما تكون حالات الإقصاء شدة.

في المكارثية، لا يُرفض حق المخالف في التعبير عن رأيه تجاه الأحداث والمواقف فحسب، بل إن رأيه يُقمع، ويُسفه، وفقاً لواحدة من أشد آليات القهر والتسلط الاجتماعي، وذلك حينما تتولى فئة أو تيار معين(شيطنة) مخالفيها ، لمجرد أنه عبر عن رؤية أو موقف نظري بحت، لا يروق لها، أو لا يتفق مع ما تؤمن به، وتسعى إلى توطينه في المجتمع، كرأي أحادي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولقد تؤدي في النهاية إلى وضع يتجاوز المختلفون فيه اللسان إلى السنان!

أمريكا تعيش وضعاً أشبه بالمكارثية، ذلك أن مجتمعها يكاد اليوم ينقسم إلى تيارين يُخوِّن بعضهما بعضا، ويُخرج بعضهما بعضاً من دائرة الوطنية لمجرد الاختلاف حول قضايا، ليست ظنية فحسب، بل هي في غالبها ليست قضايا وطنية تمس المجتمع الأمريكي بشكل مباشر.

نهاية المكارثية حلّت فقط حينما تأكد المجتمع الأمريكي ان اتهامات مكارثي هي اتهامات بلا دليل حقيقي، وحين فشل فشلا ذريعا في اثبات ان هناك جيش من الجواسيس الحمر في المؤسسات الأمريكية وخاصة وزارة الخارجية، إضافة لانتقاد عدد من الصحفيين والسياسيين والمثقفين الأمريكيين لمكارثي واتهاماته مثل الإعلامي إدوارد مارو لتنتهي الهجمة المكارثية في عام 1955 وإن ظلت اثارها وظل عدد من المؤيدين لها في الولايات المتحدة لسنوات طويلة بعدها.

جوزيف مكارثي تلقى بعد أن أبكى آلاف الأمهات وشرّد عشرات ألاف العائلات تعنيفا شديد من الكونغرس، خاصة حينما فشلت كل تحقيقاته هو وروي كوهين في تقديم دليل حول وجود جيش الجواسيس الشيوعيين المزعوم، وادمن مكارثي المخدرات بعد ذلك ولكنه توفي سريعا في 2 مايو/أيار 1957 متأثرا بإصابته بالتهاب الكبد الفيروسي، ولكن المكارثية تحولت لفكرة جابت من بعده العالم أجمع فأصبح هناك اشخاص ومؤسسات تلقي بالاتهامات جزافا لكل من يخالفها الرأي وهذا ما يجري في الولايات المتحدة حاليا.

الطامة الكبرى تكمن في أن هذه المكارثية الجديدة تسعى جاهدة لعرقة اي جهد لإعادة وضع العلاقات الروسية الأمريكية على جادة الصواب، وتسعى دون هوادة لشيطنة روسيا ومنع أو تأخير اللقاء العتيد بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، وهذا ما سينعكس سلبا على الأزمات الدولية الراهنة التي لن تجد لها حلولا ناجعة إلا بتوافق روسيا أمريكي، بدءا من الأزمة السورية الدامية ومرورا بأزمات ليبيا واليمن والعراق, ووصولا الى مسالة مكافحة الإرهاب التي لا تنتظر التأجيل أو التأخير لأن الإرهابيين يقرعون الأبواب في كل العواصم والمدن القريبة والبعيدة.  

سخرت الممثلة الأمريكية سارة جيسيكا باركر من المكارثية الجديدة بشدة، فنشرت تعليقا على لسان بطلة المسلسل التلفزيوني "الجنس في المدينة الكبيرة" كاري برادشو ( السيدة باركر لعبت الدور المذكور) قالت فيه: "هل من المعقول أن يكون السفير الروسي قد التقى مع الجميع باستثنائي أنا؟. كان يجب علي وعليه القيام بذلك"!.

بئس الدمقراطية الأمريكية التي يطيح بها لقاء او محادثة مع سفير روسي، وبئس الحريات التي طالما تغنّت أمريكا بها، إذا ما تمّ اختصارها بحرية إطلاق الاتهامات وتوزيع الشائعات..ومطاردة الساحرات وملاحقة الأشباح والسابحات في الهوام.

سعيد طانيوس

 

موافق

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا